فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير، ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والاصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله» وقيل لسفيان الثوري: ما أشد هذا الحديث! فقال سفيان: ألم تسمع الله يقول: {لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} فهو هذا بعينه، أما مسعت الله يقول: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1، 2] فهو هذا بعينه. اهـ.
قال الفخر:
المعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ولطلب مرضاته، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النيّة، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينه: 5] وقوله: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات» وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول:
لم انتصب {ابتغاء مرضات الله}؟
والجواب: لأنه مفعول له، والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله.
السؤال الثاني:
كيف قال: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك}.
والجواب: أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضًا فعل من الأفعال. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل، ويجوز أن يريد: ومن يأمر بذلك، فيعبر بالفعل عن الأمر، كما يعبر به عن سائر الأفعال.
وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه بالياء، والباقون بالنون على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله: {نوله ما تولى ونصله} فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب.
ومن قرأ بالياء لحظ الاسم الغائب في قوله: {ابتغاء مرضاة الله}، وفي قوله: {ابتغاء مرضاة الله} دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه.
ونهى في موضع آخر عن التناجي بما لا خير فيه، وبين أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين وهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [المجادلة: 9- 10] وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس} [النساء: 114] لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا.
ولكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. وقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَ} [الحجرات: 9] فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر، وكقوله تعالى: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
وقال بعض العلماء: إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} يبينه.
قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1- 3] وقوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَابا} [النبأ: 38] والآية الأخيرة فيها أنها في الآخرة، والأمر بالمعروف المذكور إنما هو في الدنيا والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}
أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبَه إلى غيره؛ ففضيلة الصَدَقَة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه، والفُتُوةُ أن يكون سعيك لغيرك، ففي الخبر: «شَرُّ الناسِ مَنْ أكَلَ وَحْدَه» وكلُّ أصناف الإحسان ينطبق عليها لفظ الصدقة.
قال صلى الله عليه وسلم في قَصْرِ الصلاة في السفر: «هذه صدقة تصدَّقها الله عليكم فاقبلوا صَدَقَته».
والصدقة على أقسام: صدقتك على نفسك، وصدقتك على غيرك؛ فأمَّا صدقتك (على نفسك فَحْملُها على أداء حقوقه تعالى، ومَنْعُها عن مخالفة أمره، وقصرُ يدها عن أذية الخَلْق وصَوْنُ خواطرها وعقائدها عن السوء. وأمَّا صدقتك) على الغير فَصَدقةٌ بالمال وصدقة بالقلب وصدقة بالبدن.
فصدقة بالمال بإنفاق النعمة، وصدقة بالبدن بالقيام بالخدمة، وصدقة بالقلب بحسن النية وتوكيد الهمة.
والصدقة على الفقراء ظاهرة لا إشكالَ فيها، أمَّا الصدقة على الأغنياء فتكون بأن تجود عليهم بهم، فتقطع رجاءك عنهم فلا تطمع فيهم.
وأمّا المعروف: فكلُّ حَسَنٍ في الشرع فهو معروف، ومن ذلك إنجاد المسلمين وإسعادهم فيما لهم فيه قربة إلى الله، وزلفى عنده، وإعلاء النواصي بالطاعة.
ومن تصدَّق بنفسه على طاعة ربه، وتصدَّقَ بقلبه على الرضا بحكمه، ولم يخرج بالانتقام لنفسه، وحثَّ الناس على ما فيه نجاتهم بالهداية إلى ربه، وأصلح بين الناس بِصِدْقه في حاله- فإنَّ لسان فعله أبلغ في الوعظ من لسان نطقه، فهو الصِّدِيق في وقته. ومن لم يؤدِّبْ نَفْسَه لم يتأدبْ به غيرُه، وكذلك من لم يهذِّب حالَه لم يتهذَّبْ به غيره.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ} غيرَ سائلٍ به مالًا أو حائزٍ لنفسه به حالًا فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة في طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود في هذه الآية. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مّن} أي الذين يختانون، واختار جمع أن الضمير للناس، وإليه يشير كلام مجاهد، والنجوى في الكلام كما قال الزجاج: ما يتفرد به الجماعة أو الاثنان، وهل يشترط فيه أن يكون سرًا أو لا؟ قولان: وتكون بمعنى التناجي، وتطلق على القوم المتناجين كـ {إِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] وهو إما من باب رجل عدل، أو على أنه جمع نجي كما نقله الكرماني والظرف الأول خبر {لا} والثاني في موضع الصفة للنكرة أي: كائن من نجواهم.
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى من أمر {بِصَدَقَةٍ} فالكلام على حذف مضاف، وبه يتصل الاستثناء، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدًا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ، فإنه في كثير من نجواه خير فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع، وجوز رحمه الله تعالى، بل زعم أنه الأولى أن يجعل {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} متعلقًا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعًا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير.
{أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف، وإرشاد ضال إلى غير ذلك، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانًا بالاعتناء بهما لما في الأول: من بذل المال الذي هو شقيق الروح وما في الثاني: من إزالة فساد ذات البين وهي الحالقة للدين كما في الخبر، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك، ولا كذلك الأمر بالإصلاح، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر «أن عمل الخير المتعدي إلى الناس، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، وأما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس}» ولا يخفى ما فيه، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف، نعم أبيح الكذب لذلك، فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها».
وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة، وأيد بما أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال: بلى قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا»، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال.